تخيل أنك شخص معارض، والنظام خلفك يطلق عليك مخابرات الدول الصديقة والحليفة لحصارك ودفعك إلى السجن، وعندما يقع المحظور يخرج مؤيدوك لاسيما البنات إلى الشارع، ويصبون على أنفسهم الكيروسين ويشعلون البيت ناراً ..
كان هذا هو نصيب الكردي "عبد الله أوجلان" في تركيا، ولكن واضح أن القدر مازال يخبئ للرجل مزيدا من الأداء الدرامي، حيث انتشرت أمس إشاعات تقول أن الرجل دُس السم له في سجنه، مما جعل المناطق الكردية بل تركيا كلها تموج بحالة من القلق والتوتر، خصوصا أنه قد سبقت تلك الإشاعة حكما قضائيا قضت به محكمة تركية بالسجن لمدة ستة أشهر على "أحمد ترك" زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي المؤيد للأكراد لأنه تجرأ وتحدث قائلاً "السيد أوجلان"، فقط "السيد" !
السلطة في خدمة الزعامة
وعلق المتحدث باسم الحكومة التركية "جميل شيشق" على الحدث قائلا: "الادعاءات بالتسمم محض أكاذيب، ولو كانت تركيا دولة من هذا النوع لفعلت ذلك منذ وقت طويل".
كان هذا استفزازا كافيا دفع بمحاميي أوجلان لتوزيع بيانات وعقد مؤتمرات تشير إلى أن موكلهم يتعرض بشكل متكرر لمواد سامة تهدد حياته، وأن اختبارات أجريت في إيطاليا على شعرات أخذت من رأسه رجحت تعرضه للتسميم عبر معادن سامة.
وهكذا نجحت وصلة الاتهامات المتبادلة في إغلاق الدائرة، ليسري تيار الخيال الشعبي وفوقه تظهر صورة "راسبوتين" المتماسك الذي لا يقهر حتى بالسم.
وحين اتخذ قرار نفى الرجل في جزيرة بعيدة مهجورة والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، استدعى أحد الكتاب العراقيين الأكراد قي مقال له صورة رجل الكهف الذي انتظره الناس أجيال وأجيال ليعود لهم بذقن طويلة ونجاة أكيدة.
ولكن النظم السلطوية لا يهمها خيال الشعب أو واقعه، ولهذا كان من الطبيعي أن ترفض الحكومة التركية هذه المناشدة التي أطلقها الرجل من سجنه مطالباً حزبه بالابتعاد عن أي عمل مسلح ونهج اللاعنف في كفاحها من أجل القضية.
الرجل والقضية
أجمل ما في قضية أوجلان هو أخطره، حيث تدفع التفاصيل الناس إلى الالتفاف حول الرجل أكثر من النظر في قضيته شأن كل أصحاب دعوة.
ابدأ بالجانب الأخف وهو الرجل وأتحدث عن هذا الريفي ابن قرية "اوملى" بمدينة "اروفا" ـ التي يقول عنها الأتراك أنها موطن الأنبياء، ولكن الصبي حين وصل إلى المرحلة الثانوية تطور لديه الاهتمام باليسار و قرأ كتاب أبجدية الاشتراكية ليهمس بعدها لنفسه " لقد خسر محمد وانتصر ماركس " !
وفي عام 1971 سجل في كلية العلوم السياسية وانضم لجبهة حزب التحرير الشعب التركي، وعندما لم ير ما يبحث عنه لديهم توجه إلى أهله وركز جهده بالقضية الكردية.
وبدا التحرك بتنظيم اعتصام بمناسبة استشهاد القائد اليساري "ماهير جايان"، مما أدى إلى اعتقاله لمدة سبعة أشهر ونظراً لعدم توفر الشهود استطاع التخلص من العقوبة التي كانت تصل إلى 15 سنة .
اختار لحركته اسم "مستعمرة كردستان" ووضع ثلاثة أسس، هي بناء الكادر الكردي الحر وبناء الشعب المحارب دون اللجوء للقوالب الاشتراكية التقليدية والتعايش الأخوي حين يتوافر الاحترام المتبادل.
مرت ثلاثون عاما كانت محصلتها الأساسية هو النجاح في خلق شكل جديد للحياة داخل المجتمع الكردي الذي عرف عنه على طول تاريخه بالتشرذم والعنف، ولكن المواجهات مع السلطة احتدمت وحين فاض صبرها التجأت لمخابرات أجنبية للقبض على الرجل ونفيه.
وهنا قد يكون من المهم أن نذكركم أن الجارة التركية استعانت بالموساد الإسرائيلي للقبض على أوجلان نظير اتفاق التعاون العسكري الذي تم توقيعه في فبراير97، وبعد عام واحد أوفى الصهاينة بالعهد، حيث سقط أوجلان بعد مطاردات في نيروبي، ليوضع بطائرة خاصة اتجهت به إلى أنقرة.
تحذير أوجلان
وقبل الختام نحب أن ننقل لكم السطر الأخير بهذه المناشدة التي أطلقها الرجل منذ شهور من داخل السجن التركي، وفيه حث عناصر حزبه إلى عدم الانبهار الزائد بحال الأكراد في العراق مع وصول أمريكا إليها، ودعاهم إلى الحذر من الانسياق وراء مخطط إسرائيلي يهدف إلى تشكيل دولة كردستان على النمط الأرميني في الجنوب وتمزيق شمل المنطقة ككل